فذلكة حول إعداد عربيّ المستقبل
أ. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
صورة العربي السلبية
صورة العربي جدّ قاتمة في أيامنا هذه، بل ومنذ مدّة طويلة قد تكون بدايتها سنة ١٤٩٢، حيث هوى حجر الزاوية الرئيس في صرح الحضارة العربية إثر طرد العرب من الأندلس. ولفظة "العربي" تكاد تكون مرادفة للعديد من المعاني السلبية المعبّر عنها في العالم الغربي عامة وفي الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بألفاظ شتّى مثل: همجي، إرهابي، لا يعوّل عليه، انفعالي، سلبيّ، متطرّف، صاحب المال والجِمال الخ. والدول العربية، التي يزيد عددها عن العشرين، ليست بأوفر حظّاً من شعوبها المقموعة والمقهورة على أمرها حتى الآن، فهي ما زالت بعيدة عن النظام الديمقراطي والحريّات على أنواعها والأحزاب والمؤسسات المدنية ما زالت شبه غائبة. ملوك هذه الدول وأمراؤها وسلاطينها ورؤساؤها المعيّنون الوارثون أو المنتخبون بنسب، تصل دائما الى ٩٩، ٩٩٪، ولا مثيل لهم في أية دولة من دول القارات الخمس، فهم لا يتنحّون عن عروشهم وينزلون عن كراسيهم إلا بسبب الوفاة أو التصفية الجسدية وبعد أن يكونوا قد أعدّوا واحدا من فلذات أكبادهم "لخلافتهم". وإنصافا للحقيقة لا بدّ من استثناء قطر عربي واحد في هذا الوصف للوضع المزري وهو لبنان. أضف إلى ذلك المرض الوراثي وهو التشرذم المستشري في جسد وروح هذه الدول الواهنة التي لا يحسب لها أي حساب في هذا العالم الحديث الذي يسير الى التكتلات العسكرية والاقتصادية وبخطى العولمة التكنولوجية العملاقة. الحكام العرب في واد وشعوبهم في واد آخر وكل في غيّه يعمه.
ضرورة الإصلاح
يبدو أن العالم الغربي الحديث لا يذكر أيَّ شيء عربي إيجابي، اللهم سوى المصطلح، "الأرقام العربية" (Arabic Numerals)، التي هجرها المشرق العربي مستبدلاً إياها بما يدعى بـ "الأرقام الهندية أو الغبارية" وتبنّاها العالم بأسره. وجامعة هذه الدول العربية لا تقوى على إنجاز أي مشروع ذي بال بسبب هذه الحالة العربية العامة، التقهقر والخمول والمحسوبيات والروح القبلية والعائلية والطائفية والانفرادية والانتهازية والعجز الصارخ في التغيير الجذري والمدروس، أكان ذلك مرحليا أم دفعة واحدة. وفي الآونة الأخيرة كثر الحديث واللغط حول ضرورة الإصلاح في شتى ميادين الحياة في العالم العربي، وتفاقم الجدل حول الإصلاح حسب رؤى وأجندات من الخارج، أمريكا وأوروبا، أم من الداخل أي من الدول العربية المعنية نفسها وتمشيا مع أوضاعها وظروفها الذاتية. لا يظن أي عاقل بأن مثل هذه الإصلاحات الجذرية في دمقرطة العالم العربي، حيث نصف سكانه تقريبا من الأميين، وعقلنة كافة ميادين العلم والمعرفة وفصل الدين عن الدولة يمكن تحقيقها في المستقبل المنظور. بادىء ذي بدء، قادة الثلاثمائة مليون إنسان عربي، هم أخر من يسعون بجدّ لمثل هذه "الهزة الأرضية" المجلجلة لأنها تعني خسارة السلطة، العرش والكرسي الوثير بالنسبة لهم ولذراريهم من بعدهم. سيادة القانون وتساوي جميع شرائح المجتمع العربي أمامه وقيام السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بمهامها بالشكل الصحيح وبشفافية الخ. من هذه الخيرات العظام التي ينعم بها عرب الشتات ويحلم بها عرب العالم العربي ما زالت كلها تقريبا حبرا باهتا على ورق أصفر.
ما الحلّ؟ التربية ثم التربية ثم التربية
ما هو الطريق الصحيح والممكن لتغيير هذا الوضع العربي المزري والبائس حتى النخاع على كافة الأصعدة؟ نرى أن الطريق الوحيد هو التربية ثم التربية ثم التربية. من الثابت علمياً أن حوالي نصف ذكاء الطفل يتكوّن في غضون الأعوام الأربعة الأولى من حياته والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل العائلة العربية عامة والأم العربية خاصّة، ذات كفاءة فكرية وثقافية وروحية نفسية تؤهلها للقيام بتربية طفلها ورعايته، وفق الأطر العلمية السليمة ليصبح عضوا صالحا وحرا وفاعلا في المجتمع؟ نحن في عالم قاسٍ فيه القدح المعلى للكيفية لا للكمية "عدّي رجالك عدّي"، وقطار التقدم الفكري والتكنولوجي سريع جدا، يمتطيه ذوو الهمم العالية ولا ينتظر المتقاعسين المتقوقعين في عباءات الماضي والغيبيات والظواهر الصوتية والجدل الدائري العقيم. في الواقع، يجب أن تبدأ عملية إعداد المولود الجديد للحياة المنتجة منذ كونه جنينا في أحشاء والدته بواسطة مراعاة المبادىء الصحية الملائمة. دور الأم المحوري في التربية لا يحتاج إلى أي برهان أو دليل، كما أن إسهام المرأة أو الزوجة في تفجّر عبقرية الرجال العظماء في التاريخ الانساني جليّ على مرّ العصور، ويُنظر مثلا في الكتيب "المرأة في حياة العظماء" لإبراهيم المصري والصادر ضمن سلسلة "دار الهلال" بالقاهرة عام ١٦٩١. وقد تبيّن في الأبحاث النفسية الحديثة أن نقل الرضيع مثلا من ركن معين في البيت إلى مكان آخر كل فترة قصيرة أمر ضروري وذلك لإتاحة المزيد من الفرص أمامه لاكتساب الخبرات المختلفة عبر حواسّه. إتاحة الفرص على الدوام لتعريض الطفل إلى صور كثيرة ومتنوعة من الحياة والطبيعة والأشخاص تساعد في تنمية قدرات الطفل العقلية والروحية. في الركود جمود وفي الحركة والتغيير تجديد وانفتاح دون حدود. وهناك سلسلة من الشروط الواجب اتباعها في العملية التربوية التعليمية البيتية فدار الحضانة، فروضة الأطفال فالمدرسة الابتدائية الخ. على الدولة العصرية المخلصة أن تضع موضوع التربية والتعليم في أعلى سلم أولوياتها لإنشاء مجتمع حضاري ينتزع مكانته انتزاعا ليحلّ ضمن الدول الراقية في هذا العالم، الذي لا يقيم أي وزن أو حساب للدول الضعيفة اقتصاديا وعسكريا والمتأخرة علميا وثقافيا. ودور البيت، وبالأخصّ الأم، هام جدا في تشييد المدماك الأول في هذه العملية التربوية الثقافية المتجددة واللامتناهية. وهذا يعني، بطبيعة الحال، أن تكون الأم متعلمة لا بل ومثقفة إلى حدّ مقبول، وشتّان ما بينهما، لتنشئة بناتها وبنيها على أحسن وجه ممكن. بعبارة أخرى، نحن نسعى منذ البداية إلى خلق طبقة اجتماعية متعلمة ومثقفة، وهذا استثمار بعيد الأمد ولا بد من الشروع به بأسرع وقت ممكن فاليوم خير من غدا.
العقلنة
وفي هذه العُجالة أودّ التركيز على نقطتين اثنتين فقط اعتبرهما الأهم في هذا الموضوع، ويمكن الإشارة إليهما باللفظة العربية المستحدثة، "العقلنة"، من ناحية وباللغة، وعاء الفكر والوجدان ووسيلتهما، من ناحية ثانية. وفي الحقل الدلالي لهذه "العقلنة" تندرج عدة مفاهيم مثل "الموضوعية، المنطق، التعليل والتفسير، الاستنباط، ربط الأمور، قوة الملاحظة، النقد البناء، طرح الأسئلة المناسبة والصحيحة في السياق الملائم، تمرّس في البحث عن المعرفة" وكلها هامة وضرورية جدا في العملية التربوية العصرية والناجحة. إن أي منهج تعليمي وتربوي يعتمد على مثل هذه اللبنات قولا وعملا سيؤدي، لا محالة، إلى إنشاء جيل عصري يكون في مقدوره الانتاج النوعي والتفريق بين الغثّ والسمين من الآراء والأخبار التي تعجّ بها وسائل الاتصال المرئية والمقروءة والمسموعة. لا شيء يأتي من فراغ أو يمنح دون مجهود، ومن الواجب على كل جهة رسمية أو شعبية في الدولة العصرية، أن تقوم بواجبها على أفضل شكل ممكن، واضعة نصب عينيها ديناميكية الحركة في الدراسة والتجديد، بغية اختيار أنسب الوسائل والمناهج لتحقيق الهدف المنشود في التربية والتعليم. شعوب العالم الراقية علميا وتقافيا وفكريا وهي، في الغالب الأعم، في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، لم تصل إلى ما وصلت إليه من رقي وتقدم وازدهار إلا عبر تحقيق المعجزات والعجائب في التربية والتعليم. كما وإنها ليست أيضا ذات قدرة عقلية وفطرية تفوق شعوبا أخرى مثل الشعوب العربية. وهذه النقطة تذكرني بطرفة كنت قد سمعتها منذ فترة طويلة في القدس ولها دلالتها اللاذعة الخاصة. تقدم ستّة أشخاص، أمريكي وألماني وفرنسي وبريطاني وياباني وعربي (لنقل لبناني)، بطلب عمل في شركة كبيرة. وفي المقابلة التي أجراها مدير الشركة مع هؤلاء المتقدمين للعمل وقع الاختيار على الأخير، وكان هذا بمثابة صدمة شديدة بالنسبة للجميع وخصوصاً للفائز نفسه. وفي مجرى التبرير لهذا القرار المفاجىء جاء إن جميع المرشّحين للعمل باستثناء الأخير كانوا قد استعملوا قدراتهم العقلية حتى "الثمالة" أما قدرة الأخير فما زالت "طازجة، جديدة خلنج".
يجب ألا يكون أي مكان أو مكانة لمنهاج التلقين دون الفهم، المعروف بسمعته السيئة "البصم"، الذي يعرفه كل التلاميذ العرب منذ أجيال وما زال ساريا بنسب متفاوتة في المدارس العربية. لا بدّ من اتّباع أسلوب الفهم والنقد البنّاء ومحاولة الاستقراء والاستنباط بناء على معطيات وفرضيات صحيحة وملائمة مستمدّة من مصادر موثوق بها بقدر الإمكان. هذا لا يعني أن الحفظ عن ظهر قلب محظور كلية، إذ أن هناك بعض الحالات التي يكون فيها هذا النمط التعليمي إلزاميا. على سبيل المثال، يتوجب على كل تلميذ في مرحلة مبكرة من تعليمه الابتدائي حفظ الجداول الحسابية الأربعة، الجمع والطرح والضرب والقسمة حتى الرقم الثاني عشر. والأمر ذاته ينسحب أيضا بالنسبة للصلوات والأشعار والأغاني، إلا أن ذلك كله ينبغي أن يكون مبنيا على الفهم والقناعة الذاتية. لا يُعقل أن يردد الواحد أبيات شعر أو صلوات وهو لا يفقه ما يتفوه به. عملية التحديث الجادة عليها أن تمسّ عقل العربي أولا وأخيرا. ومن يسعى دائما وراء الماضي ليعدد الأمجاد الجليلة عليه أن ينظر أيضا إلى الأمام ويحذو حذو السلف الصالح وآراء المعاصرين الأفذاذ مهما كانت جنسياتهم. من هذا السلف الجدير بالاحترام والاحتذاء به أبو بكر محمد بن زكريا الرازي (٨٦٤-٩٢٣م.) الذي رأى في العقل أساساً للعلم والمعرفة والمعيار للحكم النزيه.
اللغة هي الهوية والكيان
والنقطة الثانية الهامّة في هذا الصدد، كما نوّهنا، هي اللغة. الأسْرة العربية في مجال تعليم بناتها وبنيها لهجتَها المحكية في البيت تقوم بواجبها خير قيام تقريبا. من الثابت علميا أن التحدث إلى المولود منذ يومه الأوّل يؤدي بالتالي إلى تسريع بداية مقدرته على النطق والتعبير عمّا يحسّ به ويكون ذلك عادة في أواخر السنة الثانية من عمر الطفل. في عملية التلقين اللغوي هذه يشترك أفرادٌ كثيرون في المجتمع العربي، الذي ما زال في معظمه محافظا والعلاقات بين الأهل حميمة، الوالدان، أشقاء وشقيقات، الجدّان والجدتان، الأعمام والعمّات، الأخوال والخالات والجيران والأصدقاء. ومن الملاحظ أن هؤلاء الكبار المتحدثين إلى الطفل يستعملون في أحيان كثيرة ألفاظا طفولية مثل "بحّ، دحّ، نح، إمْبو، واوا، ننّا، نونو، أحّو، ككّا" الخ. في اللهجة الفلسطينية، ومن الأفضل استعمال طريقة الحديث العادية لكل فرد، توخي الواقعية والصدق وتجنب عملية "التدليع" غير الموفقة هذه. الطفل يتكلم بما يعرفه ويناسبه وفق آلية ذهنية ما زال العلم الحديث قاصرا عن معرفتها ووصفها بشكل كامل ودقيق، والبالغون يجب أن يستعملوا لهجتهم الشخصية (idiolect). إنّ الاهتمام المفرط بالطفل والخوف غير المبرّر عليه يحدّ، في آخر المطاف، من حريته واستقلاليته ولا يفسح المجال أمامه كي يشقَّ طريقَه ويحاول التعرف على أشياءَ وخبرات جديدة وبلوغ ما يريده بنفسه إذا أمكن. كما أن جعل الطفل مركز اللقاءات العائلية، كما هي الحال غالبا في العائلات العربية، لا يسهم في بناء شخصية حرّة مستقلة وخلاقة بالقدر الكافي في المستقبل البعيد.
لغة الأم بالنسبة لكل عربي هي لهجته المحلية وعليه الشروع في تعلم اللغة العربية الفصحى الحديثة (Modern Standard Arabic) عند دخوله الصف الأول الابتدائي، وشتّان ما بينهما من حيثُ الصرفُ والنحو وعلم الدلالة. ومن المعروف أن هناك مستويات مختلفة في اللغة العربية الحديثة، كما يظهر بجلاء في كتاب محمد السعيد بدوي، مستويات العربية المعاصرة في مصر. دار المعارف بمصر ١٩٧٣، وتوجد أهمية بارزة بالنسبة لما يُدعى بالعربية الأدبية، إذ أنها الوسيلة الأساسية لاكتساب العلم والمعرفة والتواصل بالحضارة الانسانية قديما وحديثا. وهذا يعني وجوب السعي الجادّ بغية السيطرة على هذه اللغة سيطرة طيبة في المهارات اللغوية المعروفة، القراءة والفهم والتحدث والكتابة. إن فكرة معرفة كل شاردة وواردة، وما أكثرها، في قواعد لغة الضاد بمدارسها المتباينة، لا سيما البصرية والكوفية والبغدادية، يجب ألا تشغل بال أي طالب عادي يود، على سبيل المثال، الالتحاق بالمؤسسات التعليمية العليا لدراسة الطبّ أو العلوم الطبيعية أو الاجتماعية. على الانسان العربي أن يعي بأن معرفة اللغة، أية لغة كانت ليست، في واقع الأمر، هدفا في حدّ ذاته، بل وسيلة لهدف آخرَ، هو مثلا، التعبير عن الفكر والوجدان والتواصل بين بني البشر وفهم الفلسفة العربية في القرون الوسطى أو الشعر الجاهلي أو القرآن الكريم الخ أو حتى معرفة كيفية تركيب قطعة أثاث جديدة في المنزل أو إصلاح آلة بينية. اللغة هي هوية الانسان وكيانه ومرآة الثقافة. غني عن البيان، أن الانسان العربي المثقف بحاجة ماسّة لمعرفة لغة عالمية واحدة على الأقل، مثل الإنجليزية أو الألمانية أو الفرنسية وذلك لمواكبة التقدم المذهل في أغلبية أنماط العلم والمعرفة شمولا وعمقا. ولا نشك لحظة أن الانسان العربي الجديد ذا التوجه العقلاني الصادق الحرّ والنقدي وفيه الروحانية الشرقية السامية السمحة المتجلية في تراثه الثري، لقادر في الإسهام من جديد في حضارة أخيه الانسان في عصر العولمة هذا وما يليه. آمل بأن تكون الهبات العربية الشبابية التي انطلقت في بداية هذا العام اللبنة الأولى في بناء عربي المستقبل.