القرامطة والوحدة الوطنية
د. أكرم حجازي
8/8/2011
في شهر فبراير / شباط 1982 نفذت القوات السورية مذبحة تاريخية بحق مدينة حماة، فدمرتها وقتلت قرابة 40 ألفا من سكانها، وشردت أكثر من مائة ألف، واختفى نحو 17 ألف لا يعرف مصيرهم حتى اليوم. لم يكن في ذلك وسائل إعلام ولا انترنت ولا هواتف نقالة ولا كاميرات تصوير لمعرفة ما جرى طوال 27 يوما من الهجوم على المدينة. مع ذلك فقد عرف العالم بالمذبحة ولو متأخرا لكنه لم يفعل شيء على الإطلاق.
عشية اليوم الأول من شهر رمضان المبارك شرعت ذات القوات بتنفيذ مذبحة جديدة، بحق المدينة قتلت فيها أكثر من 300 مواطن، فضلا عن موت 40 من الأطفال الخدج في حواضنهم في المستشفيات، وقطع للمياه والكهرباء تسبب بفساد الأدوية والمحفوظات الطبية والمواد الغذائية، وأغلقت الطرقات لمنع السكان من مغادرة المدينة، وتشن حملات اعتقال وترويع مماثلة طبق الأصل لما تفعله إسرائيل بالشعب الفلسطيني، حيث لا يجرؤ مواطن على النظر إلى الشارع من وراء ستار نافذة!! بل أن استخباراتها العسكرية أحرقت 1200 سجين في السجن المركزي للمدينة لحرمانهم من أية فرصة في الحياة فيما لو تطورت الأمور وخرجت عن السيطرة، وما زالت تعيث في المدينة فسادا وخرابا ودمارا لا حدود له. ورغم الحصار الإعلامي المحكم إلا أن الصور وصلت، والأخبار انتشرت منذ اللحظات الأولى للهجوم؛ فلو افترضنا جدلا أنه كان ثمة ما يبرر الصمت على مذبحة الأمس!! فما الذي يبرر مذبحة اليوم وكل العالم يتابع على مدار الدقيقة ما يجري في حماة والمدن السورية؟
قبل أن تقتحم دبابات T82
دير الزور فقدت المدينة 67 قتيلا في القصف المدفعي الذي تتعرض له منذ أمس الأول. وأرسلت الحكومة السورية 15 طائرة مروحية، شنت غارات وإنزالات على المدينة وبعض الوحدات العسكرية المنشقة مستخدمة
الغازات والقنابل المسمارية. مع ذلك خرجت مستشارة الرئيس بثينة شعبان لتفاخر بأن دبابة واحدة لم تدخل الدير!!! وكأن الأصل أن تدخل وتدمر وتحرق وتقتل وتفتك بالبشر والحجر والشجر!!! لكنها لم تقل لماذا
لم تدخل بعد دبابات النظام إلى الدير؟
بخلاف المجتمع، فالنظام السوري هو نظام طائفي بامتياز، في الجيش والسياسة والاقتصاد والاجتماع والأمن والمعتقد. نظام يجيد الغدر بصورة لا يتصورها العقل، ولا رصيد له إلا الدموية والكذب المجلجل في أفحش أشكاله وصوره البشرية. وبخلاف الشائع فإن مصدر قوته الدولية والإقليمية وحتى العربية قائمة على الطائفية!!! وهذا يعني أن لغة السياسة والمصالح والقانون وحقوق الإنسان والجوار ليست واردة في حسبانه ولا هي من مفردات قواميسه ومعاجمه. فمن يستطيع التعايش مع هكذا نظام سوى القوى العلمانية، من اليساريين أو القوميين العرب، الذين لم يستطيعوا التحرر من أسر الديماغوجيا التي يعيشونها منذ عقود؟ هؤلاء كالسمك في الماء؛ إذا خرج من بيئته مات على الفور. بمعنى أنهم يدافعون عما يؤمنون به أكثر مما يدافعون عن نظام دموي.
لو استحضرنا تحالفات النظام، وسلسلة الأفعال الإجرامية له، وطرق سفك الدماء عنده، ولغة النظام وأبواقه الإعلامية، ووقفنا عليها، فعلاً فعلاً ومفردةً مفردةً، وطابقناها مع عقائده وشرائعه الوحشية، ثم فتشنا في بطون التاريخ الإسلامي فلن نجد مثيلا لهذا النظام سوى القرامطة .. هؤلاء الذين كانوا يقتلون الحجاج المسلمين ويلقون بهم في بئر زمزم وهم يقولون: « أين هي الطير الأبابيل»!!!؟ هذه هي حقيقة النظام الذي تَسلَّط على رقاب الشعب السوري منذ خمسة عقود حيث لا حصانة لرضيع أو طفل أو شيخ أو عجوز أو امرأة أو شاب، ولا حرمة لدين أو مسجد.
ومع أن الثورة السورية تواجه، على الأرض، نظاما لا يمكن له أن يمتلك من أسباب القوة والفعل إلا السبب الطائفي، بكل ما ينتجه من كوارث ومظالم ومذابح وحشية، منذ اليوم الأول للثورة، إلا أن الإعلام الثوري يبدو في واد ووقائع الثورة في واد آخر!!! ولأنه، إعلام مسكون بهاجس الاتهام بالطائفية، صار يتجنب بث الأخبار الوقائية التي تنقل تحركات الشبيحة والجيش وقوى الأمن، وهي تحاول التحذير من عمل وشيك الوقوع، بل أنه يرفض نقل أي خبر عن طائفية النظام وقتلته. وهو بهذا كمن يحاول، عبثا، حجب الشمس وليس تغطيتها بغربال فحسب.
إذ ما من منطق لهذه السياسة الإعلامية بينما يعترف الأمريكيون والغرب والعرب بطائفية النظام الصارخة، وفعالياته الميدانية ذات الوحشية الفريدة في الحقد والقتل!!!؟ وما من منطق لهذا الحذر الإعلامي وسط تصريحات مدوية، وهي تحذر من رغبة النظام في جر البلاد إلى حرب طائفية!!؟ لذا فالتحذير من طائفية النظام أو مواجهة طائفيته لا تعني البتة الوقوع في شرك الطائفية. ولسنا ندري ما هو موقف الإعلام الثوري، مثلا، من اجتماع عشائر دير الزور وحديثهم الصريح عن طائفية النظام، وحتى عن الطائفة نفسها؟ وما هو الموقف مما وصلت إليه العشائر من قناعات تؤكد أنه ما من سبيل للنجاة بالأرواح من هذا النظام إلا بقتاله؟ ولما يكن الأمر كذلك فلماذا يكون قتالا ولا يكون جهادا؟
منذ السبت ( 6/8/2011) بدأت المواقف السياسية تنقلب رأسا على عقب. فالمهلة التي أعطيت للنظام السوري تجرعت تركيا والسعودية فظاعتها غدرا وخداعا مريرين، أحرج قيادات البلدين، ومعهما الأمين العام الجديد للجامعة العربية، وأجبرتهم على الإدلاء بتصريحات شديدة ومفاجئة. لاسيما وأن النظام السوري قدم نفسه كعصابة قتلة لا تتمتع حتى بأية لباقة دبلوماسية في التعاطي مع الأحداث. فأردوغان « الغاضب أو العاتب»! يعلن عن إرسال وزير خارجيته إلى سوريا لنقل « رسالة حازمة»، لكنه تلقى ردا من مستشارة الرئيس مغموسا بلغة الشبيحة ذات الصدى القرمطي: « سنسمعه كلاما أكثر حزما»!!! أما الملك السعودي فيدعو النظام، بصريح العبارة، إلى وقف ما يراه « آلة قتل!»!! وهو أقوى تصريح عربي ضد نظام عربي منذ بدء الثورات العربية حتى الآن. والعجيب في مثل هذا التوصيف أنه يخلو من أية مصطلحات سياسية أو دبلوماسية خلوا تاما!!! ولعل القادم من الأيام سيكشف لنا حقيقة هذه التصريحات وأثرها.
يبقى القول الصريح أن النظام السوري طائفي، ويستعمل الطائفة النصيرية في حكمه وقمعه وقتله، وإذا كان هذا لا ينسحب على الطائفة كلها فهو يعني أيضا أن ما يجري لا يبرئ الطائفة من كونها وقود النظام وأداته الفتاكة .. أما حلفاؤه من الروافض سواء في إيران أو لبنان فهم رؤوس الطائفية والمشروع الصفوي .. ومؤيدوه من القوميين واليساريين فهم من عتاة الديماغوجيين الذين لا يجدون مخرجا من ورطتهم، كالنظام تماما، إلا بالهروب إلى الأمام ... وكلهم يخوضون معركة موت أو حياة!!!
لمّا تصل الأمور إلى هذا الحد؛ فليس من الحكمة في شيء أن يستمر التهرب من المعطى الطائفي، وهو يفرغ كل أحقاده في الناس بلا هوادة. ولن يكون من المجدي تأخير الحسم بطائفية النظام بحجة الوحدة الوطنية، وكأن القرامطة، قديمهم وحديثهم، حكم وقتل حرصا منهم عليها!!!