عهدٌ وطنيّ سوريّ للتاريخ .. سمير العيطة .. افتتاحية لوموند ديبلوماتيك
افتتاحية سمير العيطة > آب/أغسطس > 2012
افتتاحية النشرة العربية
عهدٌ وطنيّ سوريّ للتاريخ
مرّت وثيقة العهد الوطني التي أقرّها مؤتمر المعارضة السوريّة برعاية الجامعة العربيّة في القاهرة بداية تموز/يوليو [1] مرور الكرام في الصحافة والتعليقات ربّما لأنّ صوت السلاح والحسم هو الغالب اليوم في سوريا، وضوضاء خلافات المعارضة هي الطاغية على السطح بعد أن فشل معظمها في ربط خطابه وممارسته مع نضالات شعبه.
لكن مهما كانت ظروف التوافق على هكذا عهد، فإنّه يشكّل من حيث مضمونه وثيقة سيكون لها موقعها في التاريخ، ليس فقط لسوريا، بل على مستوى التحوّلات التي يشهدها الربيع العربيّ. إذ ليس عاديّاً أن يعتمد عهد يشكّل مرجعيّة لمجتمع يريد تشييد دولة متجدّدة أوّلاً وفوق كلّ شيء مبدأ وحدة الشعب والمساواة التامّة في المواطنة، بما فيها المساواة بين المرأة والرجل، وحيث "لا يجوز فرض دينٍ أو اعتقادٍ على أحد، أو منع أحد من حريّة اختيار عقيدته وممارستها". وليس عاديّاً أن توقّع أطراف تطالب بفرض مرجعيّة الشريعة الإسلاميّة على الدولة كحركة الإخوان المسلمين في سوريا على هكذا وثيقة، في حين يتمّ في تونس كما في مصر تقديم الهويّة الدينيّة للبلد على المساواة في المواطنة، وكأنّ هذه المساواة كانت نتيجة للاستبداد وليست مكسباً لنهضة الشعوب ونضالات التحرّر.
كما أنّه ليس عادياً أن يكون الإنسان وحقوقه هما غاية العلاقة بين أبناء البلد الواحد، مع ضمان حريّاته بما فيها الحريّات الجماعيّة. أي أن تضمن الدولة إزالة كافّة أشكال التمييز ضدّ المرأة، وضد القوميّات المتواجدة بين أبناء الشعب الواحد، وتعترف بهويّتها وبحقوقها في التعبير عن قوميّتها. والمقصود هنا خصوصاً هو القوميّة الكرديّة التي لطالما قمع تصوّر شوفينيّ لعروبة الدولة حقّ الأكراد في أن يعبّروا عن هويّتهم.
هكذا يفتح هذا العهد السبيل أمام إمكانيّة خلق دولة حديثة، لا معنى فيها لأغلبيّة وأقليّة من حيث المواطنة، بل انطلاقاً من حريّة أيّ فئة اجتماعيّة أو جماعيّة في التعبير عن هويّتها وطموحتها، واحترام "التنوّع المجتمعي ومعتقدات ومصالح وخصوصيّات كل أطياف الشعب السوري، والإقرار بالحقوق الثقافية والسياسية لكلّ مكوّناته". لا مشكلة لمثل هذه دولة في الاعتراف بهويّات قوميّة ودينيّة متعدّدة وصون حريّاتها ضمن الهويّة العربيّة الإسلاميّة الجامعة. دولة لا تعتمد الفيدراليّة لحلّ مشكلة الهويّات القوميّة المتواجدة ضمن شعبٍ واحد، كما هو الأمر في العراق المختلف من حيث إرثه التاريخيّ، ولا التقاسم الطائفيّ أو العرقيّ للدولة كما في لبنان، بل تستند على شاكلة إسبانيا على اللامركزيّة في إدارة شؤون المناطق وتفسح مجالاً للتعبير عن الهويّات ليس فقط كهويّات، وإنّما لتحقيق طموحات العدالة اجتماعيّة والتوزيع المتوازن في النموّ. وقد تمّ قصداً في هذا العهد وضع تراتبيّة ترفع المساواة في المواطنة فوق الحريّات وفوق تعريف الهويّة وفوق شكل الدولة ومؤسساتها. نموذج جريء ليس فقط لسوريا وإنّما أيضاً لمجمل العالم العربيّ، من المغرب إلى السودان واليمن.
كذلك وضع العهد ضوابط لها معناها لأسس الدولة الحديثة التي تترابط مع جوارها بشكلٍ معقّد، مثلاً عند الإشارة إلى ضرورة أن تضع الدولة قواعد لصون الحريّات من هيمنة عالم المال أو السلطة السياسيّة، أو لدى اشتراطه عدم جواز "الاستئثار بالسلطة أو توريثها بأيّ شكلٍ كان"، أو أيضاً وجوب "احترام نتائج الانتخابات التي يقررها صندوق الاقتراع مهما كانت"، وضمان النظام الانتخابي "لحق مشاركة كافّة التيارات الفكرية والسياسية، ضمن قواعد تؤمّن أوسع تمثيل للشعب استقرار النظام البرلماني، وتضبط بشكلٍ دقيق الموارد المالية وإنفاق الأحزاب والجماعات السياسية" - ما يعني ضبطاً دقيقاً للمال السياسي خاصّة من الدول الأخرى-، وكذلك أنّه في مقابل صون الملكيّة الخاصّة، لا يجوز "الاستيلاء عليها إلاّ للمنفعة العامة ضمن القانون ومقابل تعويض عادل، دون أن يعاد تجييرها لمصالح خاصّة" - ما يعني كسر نموذج اقتصاد المضاربات العقاريّة القائم في المنطقة العربيّة -، وأنّه أيضاً في مقابل ضمان حريّة الاستثمار والمبادرة الاقتصاديّة وتكافؤ الفرص والأسواق، يجب أن تكون هناك "ضوابط تكافح الاحتكار والمضاربات وتحمي حقوق العاملين والمستهلكين".
هذه كلّها تفاصيل لها معناها اليوم. لأنّها بالضبط تخصّ منع قيام سلطة (سياسيّة) تهيمن على الدولة وعلى مؤسساتها؛ ولأنّها تجعل الديموقراطية ذات معنى في ظلّ تأثيرات المال على الإعلام والسياسة وتحويرهما للحريّات الأساسيّة حتّى في بعض الديموقراطيات الراسخة.
يبقى أنّه لا شيء يضمن التزام موقّعي العهد بهذه الوثيقة وبمبادئها "الدستوريّة" - كما بوثيقة المرحلة الانتقالية المترابطة معها -، ما يعني اعتبارهما فوق وثائقهم الخاصّة. ولا شيء يضمن أيضاً أن يتمّ تبنّي هذه الوثائق من قبل "الجيش الحرّ" أو المقاومة الشعبيّة المسلّحة، وكذلك من بعض الفصائل المعارضة التي تقول أنّ هناك شرعيّة ثوريّة ستفرض نفسها عند سقوط النظام. ففي ظلّ الفصل بين ما هو سياسيّ وما هو عسكريّ في المعركة ضدّ نظام قاتل، ثد يفرض السلاح وحده شرعيّته بعد الانتصار. ولكن يظلّ السؤال الجوهريّ هو: هل ستُبقي هذه الشرعيّة الشعب والدولة موحّدين؟ وهل ستؤسّس لدولة حديثة جديرة بالدماء التي بذلت من أجلها؟
* سمير العيطة - اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com
المصدر