افتتاحية سمير العيطة > أيلول/سبتمبر > 2012
افتتاحية النشرة العربية
سمير العيطة*
زمن الثورة من أجل العدالة[
هل ضحّى شهداء الربيع العربي فقط لإسقاط أنظمة تسلّطية؟ وهل يمكن إقامة أنظمة تحترم الحقّ الإنساني في الحريّة، دون أن تعمل أيضاً وخصوصاً على إرساء الحقوق الاجتماعيّة والاقتصاديّة، أي شعار "الكرامة" التي كان ينادي به المتظاهرون؟
الإجابة بديهيّة لمن ير أنّ الربيع العربي قد تأسّس على استثناءين تاريخيين، لا على واحدٍ منهما: أوّلهما نموذج سلطة ما فوق الدولة في البلدان العربيّة، مثل نموذج دول الخليج السياسيّ الريعيّ منذ أوائل السبعينات؛ وثانيهما "المدّ الديموغرافي الشبابي"، الذي لم يتمكّن النموذج الاستبداديّ تأمين نموذج تنمية لتلبية متطلّباته [1]
سقطت سلطة ما فوق الدولة في تونس ومصر وليبيا. لكن مذّاك تفاقمت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة بفعل مرحلة الانتقال وعدم الاستقرار السياسي. وأتت قوى سياسيّة جديدة إلى الحكم، على أمل الشروع ببرنامج إعادة إطلاق العجلة الاقتصاديّة. إلاّ أنّ ما نراه لا يطمئن.
في مصر حصل الإخوان المسلمون على نسبة كبيرة من مقاعد المجلس النيابي، ثمّ اختير مرشّحهم رئيساً للجمهوريّة. إلاّ أنّهم تخلّوا سريعاً عن البرنامج الطموح الذي طرحوه كمشروعٍ انتخابيّ، والذي سمي "مشروع النهضة"، بكلفة أربعين مليار دولار. هكذا صرّح المرشد العام للجماعة خيرت الشاطر مؤخراً أنّه "ليس برنامجاً واضحاً، محدّداً، يفرض على الناس" [2]. في حين قال رجل الأعمال حسن مالك، القيادي في الجماعة أنّ أحد ركائز الحكومة الحالية سيكون "علاج العجز"، وأنّه في المرحلة المتوسّطة سيتمّ "وضع نظام تعليمي يلبّي احتياجات السوق"؛ أمّا "النهضة فستستغرق 20 إلى 30 عاماً" [3]. هذا في حين ترفض السلطات الرسميّة الإفصاح عن الشروط التي فرضها صندوق النقد الدولي لتأمين قرض لمعالجة العجز الحالي. فما الذي تغيّر إذاً عن خطابات وممارسات حكومات الاستبداد؟ خاصّة فيما يخصّ الالتزام تجاه الناخبين أو الشفافيّة؟
في الحقيقة، ما تغّير هو تراجعٌ في الخدمات العامّة: وصولاً إلى انقطاع الكهرباء الذي بات دوريّاً أو تعطّل أجهزة حاسوب مطار القاهرة الدولي لساعات طويلة، وكلّ ذلك دون محاسبة. هكذا برزت بداية رأي عام موالٍ للأغلبيّة المنتخبة يطالب بوقف "المطالب الفئويّة" والتظاهر، وإلاّ... وكأنّ الأمور تحضّر لقطيعة مع مطالب الثورة في الحريّة والكرامة سويّة. الوضع ليس مختلفاً كثيراً في تونس [4]]، في حين يحضّر دون شفافيّة برنامج اقتصاديّ لسوريا ما بعد الأسد لا يهمّه التوافق الاجتماعي الذي جمع كلّ أطياف المعارضة حول صورة سوريا المستقبل والمرحلة الانتقاليّة [5].
لن يكون سهلاً على أيّ سلطة، وإن انتُخبت ديموقراطياً، أن تعالج وبسرعة ضرورات إعادة إطلاق اقتصادات ما بعد "الثورة"، حتّى لو لم يكن الدمار والتهجير كبيراً كما في حال سوريا وليبيا. الاحتياجات كبيرة، وكذلك ما تترقّبه الشعوب نتيجة لتضحياتها. ولا يمكن توقّع الكثير من الولايات المتّحدة وأوروبا، لأنّهما تعانيان من أزمة مالية خانقة. ولم تعد دول الخليج العربي تعطي منحاً ملحوظة "لشقيقاتها" كما في السبعينات، بل ودائع ماليّة بفوائد... وشروط، على غرار صندوق النقد الدولي. يبقى التوجّه نحو الصين وغيرها من الدول الصاعدة ذات الفوائض المالية الكبيرة، ولكن بأيّ مقابل؟ وهل سيسمح مصنع العالم بأن تطوّر دولاً أخرى إنتاجها للقيمة المضافة، أم سيغرقها ببضائعه ويحصل على امتيازات لاستخراج مواردها الطبيعيّة؟
على الأغلب سيتمّ إرساء النظام الاقتصادي الريعي في معظم دول الربيع العربي، مع فقدان ما تبقّى من السيادة الاقتصادية... وبالتالي السياسيّة على الأمد المنظور. لأنّ العالم المعولم اليوم لم يعد يقبل أيّ نوع من الحمائيّة التجاريّة، حتّى لفترة إعادة تشغيل (أو إعمار) الآلة الإنتاجيّة بعد ثورة؛ على عكس ما تمّ قبوله حيال فرنسا حتّى خلال مشروع مارشال إبّان الحرب العالميّة الثانية. ولن يكون هناك شفافيّة كاملة على مجريات الاقتصاد والاستثمار، لأنّ الشعوب ما زالت مستيقظة وبالمرصاد. ولن تكون هناك برامج اقتصاديّة اجتماعيّة ملزمة للأحزاب، لأنّ الإيديولوجيا ستحلّ محلّ الفكر والنقاش. ليس فقط الإيديولوجيّة الدينيّة منها، بل أيضاً تلك الاستعراضيّة لمكافحة ومحاكمة "فلول" الأنظمة السابقة. علماً أنّه في هذا المجال، لا تتمّ حقّاً أيّ محاسبة اقتصادية، ولا حتّى تأميم لنشاطات ريعيّة كانت تخدم السلطة السابقة، لاسترجاع ما تمّ نهبه من الشعوب. ولن تعود أموال أهل هذه السلطة المودعة في الخارج، لأنّ الآليات التي حجزت عليها "لدعم" الثورات لا تسمح باستردادها بسهولة. على العكس، تظهر سريعاً مطالب خصخصة ما لم يتمكّن الاستبداد عن فعله، لضرورات سدّ العجز... ووفاءً لمن "ساعد" الثورة!
هذا كلّه وكأنّ الثورات العربيّة قامت كي تسرّع ما كانت السلطة السابقة تعمل عليه لصالحها، إنّما الآن لصالح الخارج. اللهم إلاّ... إذا كانت الشعوب تعني حقّاً ما كتبته على الجدران: "أنّ الثورة ليست لحظة!".
* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs
Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept
mafhoum, www.mafhoum.com
المصدر
* اقتصادي، رئيس تحرير النشرة العربية من لوموند ديبلوماتيك، ومؤّلف: Les Travailleurs Arabes Hors-La-Loi, L’Harmattan, 2011. ورئيس مجلس ادارة موقع مفهوم A Concept mafhoum, www.mafhoum.com
[1] سمير العيطة: "الإصلاح أم التغيير"، لوموند ديبلوماتيك النشرة العربية، آيار/مايو 2011، http://www.mondiploar.com/article.p...
[2] صحيفة الشروق، القاهرة، 29 آب/أغسطس 2012.http://shorouknews.com/news/view.as... ويرصد المتابعون أنّ البرنامج لم يكن أصلاً سوى إعادة صياغة لمشروع مصر 2025 برعاية برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
[3] مجلّة الشباب، القاهرة، 20 شباط/فبراير 2012. http://shabab.ahram.org.eg/mag/Inne...
[4] محمّد علي مرواني: "تونس، تغيير كلّ شيء... ليبقى كما هو!"، السفير العربي، 25 تموز/يوليو 2012, [5] يمكن مراجعة وثائق مؤتمر المعارضة على موقع الجامعة العربيّة، [->http://www.arableagueonline.org/" class="spip_url">http://arabi.assafir.com/article.as....
حقوق الطبع محفوظة لكافة البلدان