الريح الصفراء....
لقد تعودت أن أزود ذخيرتي من الشّموع احتسابا لانقطاع مفاجئ لتيار له علاقة أشد ما تكون بالرياح التي تعج بتلك الهضاب بتواصل يتعدى الأسبوع أحيانا...
كان لتلك الريح صفير أعيش رعبه في ليل وحدتي.. تلك الريح التي كانت تكسو القرية والهضاب من حولها بلون الصفرة.. فتدفن براعم الحياة فيها .. في أيام كتلك كنت أحلم بحمام دافئ يزيل ما ترسب بجسدي من تراب فلا أجده..
تراب كان يخترق جسدي كلما مشيت فيه لدرجة أن يترسب بين أضراسي ..ويجعل جفوني رمادية.. ووجهي مغبرا يجعل منظري كالخارج من قبر...
غبار يرسل حرقة بداخل أنفي.. وضيقا بجهاز تنفسي .. وحمرة بعيني .. وما يفعل بأولئك الصّغار أشد...
كنت أرقبهم يقدمون إلى المدرسة وتلك الرياح تشتت جمعهم.. تخطف محافظهم الصغيرة من أياديهم الباردة التي لا تقوى على حملها ...
ذات فجر شتائي قدمت فيه من مدينتي إلى القرية خطفت الريح كيسا كنت أضع فيه زادي من شموع وخبز وكبريت...شتت زادي
في الظلمة ..
سائق الحافلة هاله منظري فترجل عن مقوده وراح يبحث معي ...
في عصف كذاك كان ينبغي أن أحتضن ما تحمل يدي بقوة ، وأحني رأسي في مواجهة تلك الرياح .. مثلما كان ينبغي
على أولئك الصغار أن يشدوا محافظهم إلى صدورهم ..
كم كنت أحزن وأنا أقف عند باب القسم أرقب وصولهم فأراهم من بعيد مثل كتاكيت تعبث بها الرياح يمينا وشمالا ..
وكم كان يهولني منظر طفلة كانت أصغرهم سنا .. وأنحلهم جسدا وأقصرهم قامة وهي تجابه الريح .. كنت أجري إليها أخطفها من
الريح بيد وبالأخرى أحمل محفظتها الصّغيرة المتآكلة المثقلة بكتب يعجز جسمها عن حملها كما تعجز أجساد كل تلاميذ الابتدائي عن
فعل ذلك ..
تلك الطفلة الصغيرة المميزة بملامحها.. الذكية في طريقة تفكيرها.. كانت تجعلني أسترق إليها النظر فأراها تقوم
بحركات وهي في مقعدها أثناء الدرس تضحكني في سري .. كأن تخرج لسانها إذا اندهشت.. وتحجب وجهها بيديها الصغيرتين إذا
خجلت..وكانت شرسة أيضا لا يجرؤ أحد من زملائها على الاحتيال عليها ..كانت تعشق الكتابة على السبورة رغم قصر قامتها .. ولو
أن تخطط أسفلها في فترة الاستراحة..
إصرارها على السّبورة كان يعلمني أن أومن بحلمي مهما كان بعيدا ..
كنت أحيانا أرفعها لتسجل إجابتها على السبورة.. فتضحك ويضحك زملاؤها و أضحك معهم ..فد كنا سعداء رغم ريح
صفراء صفرة الحياة هناك ..صفرة جفاف عمّر بالمنطقة لأكثر من ثلاثين عاما ..
كنت وتلاميذي نجعل سيرنا في ذلك العصف لعبة نحتال بها على الرياح.. كنا نسلمها أجسادنا لتدفعها لحظة
خروجنا من القسم ونضحك ..
حقا قد كانت سعادتنا في ذاك الجو انتصارا...