رمضان عامي الأول بالقرية...
.......................................................
كان السّكن أوّل مشكلة صادفتني يوم تعييني للعمل في القرية..
تلك القرية التي لها تاريخ قديم ..غير أن قانون العرش الواحد حال دون أن تكون مُجمعا سكنيا يوازي عمر تاريخها .. فهم لا يتزوجون إلا من بعضهم لا يزوّجون غيرهم...
لا مكان للغريب بينهم..
بعد طول بحثت عثرت على كوخ مهجور بتلة تنتهي عند حدّها القرية وتبدأ من طرفها الآخر بساتين ..
لحظة ما فتحت باب الكوخ ..
علمت أنني أفتح بوابة عمر صعب آت لست أدري مساحة عذابه..
ولا ارتفاع شقائه..
كيف لي أن أنظف كل تلك القذارة...
كيف السبيل لسكناه...
كيف ...وكيف؟...
أغلقت الباب.. وسلكت طريق العودة للمدينة..
وفي فكري حيرة من مقولة: " البحر من ورائكم و العدو من أمامكم "..
اليوم الموالي كان الأول من رمضان الكريم..
بعد الدوام شرعت في تنظيف الكوخ..
كان يتكون من غرفتين ..
وجدت الأولى مملوءة بأغصان شجر شوكي يابس..
والأخرى قد تناثرت فيها حجارة..
وبقايا مواد بناء ..
وبقايا خضر فاسدة...
...
تراب يغطي المكان..
بيوت العناكب تتدلى من السقف..
حشرات تدب في كل اتجاه..
بدأت بإخراج الأغصان المتشابكة ببغضها ..
كنت كلما سحبت غصنا جرح شوكه كفيّ... وساقيّ...
عراكي مع تراب المكان جعل يدي تبدوان كيدي بناء مُجهد...
النساء عادة ما تجزعن من رؤية الفئران..لكنني أجزع من رؤية العناكب...لا أقوى على رؤيتها حتى بطرف العين .. فوجدتني ذاك المساء في مواجهة أعداد منها...
كنت أشعر بالفزع وأصرخ كلما ظهر أحدها..
أكنسه إلى خارج الكوخ ..
لا أقوى على قتله...و لا قتل غيره من أنواع كثيرة من حشرات كانت تفاجئني...
حشرات لم أرها في حياتي..
لم يكن لديّ من حل في مجابهتها سوى أن أغمر أرضية الكوخ بالماء.. و أكنس كل شيء إلى خارجه..
وبينما أنا كذلك شعرت بشيء يتحرك يتسلق ساقي.. نظرت فإذا هو عنكبوت عقرب الريح المريع..
صرخت..
خرجت من الكوخ أجري في جزع ..
لست أدري كيف تخلصت منه .. ربما سقط في لحظة الجزع تلك...
جلست أمام الكوخ أتفحّص ساقي و أنا أبكي..
بعدها شجّعت نفسي ببعض المواقف من شجاعة أبطال التاريخ العظماء..
وتذكرت تضحيات الشهداء من أجل هذا الوطن.. مسحت دموعي وقررت مواصلة العمل..
وانتهيت من تنظيف الكوخ.. لكنه كان يحتاج إلى كهرباء.. وإصلاح.. وطلاء..
عدت إلى المدينة..لأتناول إفطار اليوم الأول من رمضان مع أسرتي..
وفي اليوم الموالي حملت معي بعض ما المتاع وقررت أن تكون ليلتي الأولى في الكوخ...
ليلة أختبر فيها صمود شجاعة الأنثى في وجه زلازل الخوف حيث التي تسجّل أعنف معدلاتها..
وأذن أوّل مغرب لي بالقرية ..
جلست إلى مائدة إفطار صامت ..
ورويدا رويدا حل الليل..
وأشهر الخوف أسلحته..
ماتت شجاعتي في أول مواجهة..
وجدتني أرتعش ..
أصغي لكل حركة قد تكون..
لم أجد حيلة إلا الاختباء في فراشي ..لم أترك سوى فتحة صغيرة بمقدار ما تنظر عيناي..
ومضى الوقت ثقيلا..
أعدُّ ثواني الدقيقة الواحدة..ودقائق الساعة الواحدة..
بعدما أنهكني الليل غفوت...
وما هي إلا لحظات حتى شعرت بأطراف حشرة تدب على خدي العلوي....
استيقظت في جزع وصراخ..
كانت خنفساءا بحجم كبير..بشعة المنظر... مقزّزة..
رحت أبكي...
بعد تلك الليلة القاسية قررت أن أقضي الأيّام المتبقية من رمضان ذهابا وإيابا وإن كانت المسافة مرهقة...
والأصعب من ذلك أنه لا توجد وسائل نقل من القرية إلى المدينة..
كان عليّ الانتظار على رصيف الطريق الوطني عسى أن تمر حافلة أو سيارة أجرة...
قد يطول الانتظار وقد يقصر.. لا يوجد وقت محدد...
وفي أحد الأيام طال انتظاري ..
وآلت الشمس للغروب ..
فجأة رأيت حافلة تقترب..
استبشرت.. ورحت ألوّح لها ..
وما لبثت فرحتي أن تبددت حينما اعتذر سائقها بأن لا أماكن شاغرة لديه ومضى...
رفعت بصري إلى السماء والدمع يملأ عيني وقلت "يا رب إلى من تتركني.."..
وما هي إلا لحظات حتى رأيتُ الحافلة تتراجع إلي..
وإذا بالسّائق يفاجئوني قائلا:"سأخالف القانون .. و لن أتركك هنا في هذا الوقت..مهما كلفني الأمر.."
كان موقف شهامة معهود من نخوة جزائري غيور..
وانطلقت الحافلة ..
وما هو إلا وقت قصير حتى حان وقت الإفطار..
وكم كان منظر أولئك الركاب جميلا وهم يقتسمون حبات التمر ..و ما توفر لديهم من زاد الطريق في مزاح.. وضحك صادق ...
لحظتها بكيت لا حزنا على حالي ولكن خشوعا أمام تضامن الجزائريين...
[/color]
[/color]