الضيف الغريب من نابلس
ترجمة بروفيسور حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها فياض بن يوسف/لطفي بن فياض الطيف الدنفي (زبولن بن يوسف بن زبولن الطيف الدنفي، ١٩٢٩ - ، من رؤساء الطائفة، معلّم للغة الإنجليزية في نابلس، نشر مقالات كثيرة عن حياة الطائفة في ا. ب.) بالعربية على بنياميم صدقة (١٩٤٤-)، الذي نقلها بدوره إلى العبرية، أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، في العددين ١٢٢٦-١٢٢٧، ١٥ كانون ثان ٢٠١٧، ص. ٧٩-٨٢.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتصون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
” وحدة في القدس
أودّ أن أقصّ عليكمُ القصّة التالية، التي تُعلّمنا الكثير عن ظروف حياة آبائنا، وعن طبائع بني البشر الخاصّة متعددة الجوانب. سمعت القصّة مرّاتٍ لا تحصى من أبي يوسف/لطفي بن فياض الدنفي. عندما كان يصل إلى نهايتها، كان يومىء برأسه من أعلى إلى أسفل ويقول: حقًّا هذا هو الأمر المناسب والصحيح الذي يستحقّه كل من يسلُك الطريق غير المستقيم، إذ أنّه في نهاية المطاف يرتدّ العار الذي فعله بيديه إليه ويلاحقه.
أثق بقول والدي، مع أنّه لا يأتي بأيّ جديد. كان أشهر حكمائنا القدامى، مرقه بن عمرم، قد كتب في قصيدته الخالدة: راقبنا يا سيّدنا، في البيت المستهلّ بحرف القاف ما معناه: السوء لا يجد إلى أين يذهب، بل يعود، في الواقع، إلى فاعله [في الأصل بالآرامية السامرية، لهجة فلسطينية غربية. مرقه بن عمرم داره، القرن الرابع للميلاد. أنظر: زئيڤ بن حاييم، عبرية وآرامية السامرة، صوت الشعر والصلاة، مج. ٣، كتاب ٢، القدس: الأكاديمية للغة العبرية ١٩٦٧، ص. ١٤٥ س. ٦-٧، في الأصل بالعبرية] وهذا شبيه بالقول: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
إنّي أتحدّث عن تلك الأيّام البعيدة، حيث لم يكن لا اقتصاد ولا رزق بالمرّة في نابلس، ولذلك اضطرّ السامريون إلى الانتظام في مجموعات من الأقارب والشركاء لهدف واحد: إيجاد مصدر رزق لهم ولأفراد أُسرهم خارج نابلس. منهم منَ انضمّوا للعمل في معسكرات الجيش البريطاني في نتانيا وتل أبيب. قسم آخر عمل في إطار الهستدروت (النقابة) العبرية في عمل بناء البلاد. آخرون توجّهوا للعمل في القدس حتّى. كانوا يسافرون يوم الأحد من نابلس إلى القدس، يبيتون هناك طيلة الأسبوع في شَقّة مستأجرة، وفي يوم الجمعة يعودون ثانية إلى نابلس.
كان أبي يوسف في إحدى هذا المجموعات، وبرفقته أبناء عائلته، شقيقه خليل (أبراهام) بن عبدالله لطيف الدنفي وشقيقه سليم (شلوم) الذي قُتل في الهزّة الأرضية التي ضربت نابلس سنة ١٩٢٧. كما كان بمعيّتهم ضمن آخرين عزات (عزي) بن إسماعيل السراوي (الستري) الدنفي. هنا أنا أحكي عن تنظيم سبق ما ذكرت. إنّي أتحدّث عن أيّام الحكم العثماني الأخيرة في فلسطين قبل الاحتلال البريطاني لها عام ١٩١٧. استأجروا شَقّة في القدس، سُرعان ما غدت بؤرة جاذبة لكلّ سامري وصل القدس لغاية ما؛ كما كانت عليه الحال في يافا في بيت إبراهيم بن فرج صدقة الصباحي (أبراهام بن مرحيب صدقه الصفري)، حيث أمّه سامريرن كُثر. كلّ سامري خارج مدينته يبحث دومًا عن أبناء جلدته، للمبيت عندهم، ولتمضية الوقت بدون ملل، ولتجنّب القال والقيل من قبل المتسائلين عن كيفية قضاء الوقت وحيدًا، بدون عين سامري أخرى تراقبه. هكذا همُ السامريون، رُحماء بنو رحماء، ويكفُل الواحدُ الآخر.
كذلك الكاهن الشاب مجايلهم، واصف بن الكاهن توفيق بن خضر (آشر بن متصليح بن فنحاس)، كان معهم وعُيّن شماسًا لدى المجموعة عند اللزوم. إجمالًا، هم قضوا ساعات بعد الظهر، بعد العمل بهناء. نيّتهم في جمع بعض المال نقدًا لإعالة أسرهم، وحّدتهم في مجموعة واحدة مترابطة، ومن الصعوبة بمكان الفصل بين أعضائها. نشأت بينهم صداقة وأُخوّة لا مثيل لهما. استقبلوا بالترحاب كلّ سامري تواجد في القدس، وشاركوه المبيت والطعام كإخوة. في بعض الأحيان، في غياب القرش، وهم تقاضوا قروشا، بقوا في القدس يوم السبت ريثما يوفّرون ما يكفي للسفر إلى بيوتهم في نابلس. هذه هي خلفية القصّة الطريفة، التي طالما أكثر والدي في روايتها لي كما أسلفت.
الضيف الغريب
ذات يوم، أتى إلى الشقّة عربي وقدّم نفسه بأنّه من سكّان إحدى القرى المجاورة لنابلس. كان يمسُِك بكلّ يد حقيبتين ثقيلتين مربوطتين بالحبال طولًا وعرضا. وضعها في ركن الغرفة كما قيل له. الشقّة كانت صغيرة، وكلّ واحد منّا احتلّ ركنًا فيها حيث وضع فيه شرشفًا أو فرشة، آنذاك لا أحد تكلّم عن الأسِرّة. ساعة جلوسنا لتناول الطعام، كنا نفرش على المصطبة حرام صوف قاتمًا سميكا، بمثابة مائدة وقت الحاجة. آونتها، مائدة خشبية كبيرة، لم تكن في الحسبان، أو في الحلم، تلك ما كانت في نطاق إمكانياتنا.
لا أحد منّا سأل الضيف عمّا في حقائبه، بالرغم من حبّ استطلاعنا الذي نهشنا، لأن الأدب يقضي عدم دسّ الأنف بما ليس لنا. تعجبّنا قليلًا، كيف وجد ذلك العربي، ذو اللباس المهندم، الماشي الهوينا كالأسياد الأثرياء، لديه عكّاز مزركش بنقوش نحاسية لمّاعة، وغالبًا ما يكون معلّقًا على ذراعه، بالتحديد شقّتَنا البسيطة للمبيت. كان بوسعه، بدون ريب، المبيت بحسب مظهره في أفخم فندق. تساءلنا وأجبنا أنفسنا، لا شكّ أنّه يشعر بالراحة برفقة أبناء مدينته، حتّى ولو كانوا كلهم سامريين كفّارًا، كما اعتادوا تسميتنا في أوساط المسلمين، يروي أبي، فهذا أفضل من أن يبيت في فندق لا يعرف فيه أحدا.
كان يحدّثنا بشكل لطيف، وسُرعان ما وجدنا أنّه محدّث لبق وابن العالم الواسع، الذي لم يره أيٌّ منّا واكتفى بالحلم عنه. لم يفتح حقائبه بحضورنا قطّ. كنّا نذهب في الصباح إلى العمل ونعود إلى الشقّة بعد الظهر. ضيفنا، كان سيّد وقته، يظهر أنّه لم يزاول أيّ عمل شاقّ في حياته، أنيق دومًا، يرتدي معطفه الطويل الجميل.
عُصِيٌّ تحت المعْطف
أحيانًا عند رجوعنا من العمل، كنّا نراه جالسًا في أحد المقاهي بجانب باب العامود، منغمسًا بمحادثة مفعمة بالحيوية مع أصدقائه حول الأرجيلة، الذين احترموه كثيرا. عند رجوعنا إلى الشقّة كان يتطوّع أحدنا دائمًا لإعداد الطعام لكلّ المجموعة. في تلك الأيّام، قائمة الطعام لم تكن متنوّعة. لا بدّ من الاعتراف، أنّنا طبخنا كلّ يوم نفس الطعام: خليط من العدس والأرز والبصل والزيت، أي: المجدرة، أكلة قائمة بذاتها، إذا ما تنوولت بنحو نادر، لنقل مرّة في الأسبوع؛ لكن إذا تنوولت يوميًّا فتكون معدّة فقط لمَلء معدتنا المتلهّفة. لم نفكّر عن اللحم، لأنّنا كنّا بعيدين عن بيوتنا.
على كلّ حال، قصّ والدي - طبخْنا للضيف أيضا. وبسبب احترامنا الجمّ له، كدّسنا جدًّا صحنه بالعدس والأرز أكثر بكثير من حِصّة كلّ واحد منّا. في نهاية المطاف، لا يأتينا ضيف في كلّ يوم، وبحوزته أربع حقائب مكدّسة، والله وحده يعلم ما في داخلها. كنّا متأكدين بأنّ الضيف في آخر المطاف، سيكافئنا على كرم ضيافتنا. أكل معنا عن طيب خاطر، وشرب كأس العرق النابلسي حتّى الثمالة. ظاهرة المسلمين المتديّنين، الذين لا ينفرون من كأس مشروب روحي، كانت معروفة جيّدًا لنا في نابلس، لذلك لم نستغرب هذه الممارسة. كما أنّه لم يستفسر قطّ، لماذا يحظى هو بنصيب من الطعام أكثر من جميع ساكني الشقّة. وفي المقابل، لم نسأل نحن عمّا في حقائبه. أضف إلى ذلك، كانت وجبته تزيد كلّ يوم.
ذات يوم استسلمْنا لحبّ الاستطلاع. هو لم يكن في الشقّة حين رجوعنا إليها. أوقفنا اثنين منّا بجانب النوافذ لإخطارنا بقدومه واثنان آخران بدآ في فكّ عقد الحبال من على إحدى الحقائب الأربع، ولكن قبل أن نتمكّن من فتحها، عاد ضيفُنا، وبسرعة فائقة وبجهد كبير استطعنا إخفاء آثار محاولتنا لمعرفة ما في الحقائب. لم يشكّ ضيفنا بشيء، وفرح باقتراحنا لمرافقتنا إلى سوق القدس، لشراء عكّازة لأحد أعمام والدي.
الكلّ انضمّ لشراء العكّازة، لا أحد أراد أن يفوّت فرصة التنزّه في القدس بمعيّة ضيفنا المبجّل. اتّكلنا على نصيحته الحسنة، وفي الواقع نصحنا بعكّازة جميلة. وبينما كنّا نساوم صاحب الدكّان على السعر، لاحظ بعضنا أنّ ضيفنا أخذ عصوين وخبأهما داخل معطفه الفضفاض، ولم ”يشتلق“ على ذلك آخرون. ”ضيفنا لصّ“ ـــ قلنا بيننا وبين أنفسنا ــ ”لذلك حقائبه مكدّسة، إنّنا نستضيف لصًّا في شقّتنا“. منذ ذلك اليوم أخذنا في إنقاص وجبته إلى حين لم يبق في صحنه إلا النَزْر. في يوم من الأيّام اختفى ضيفنا وما عاد“.